خالد يونسي
رجل اختاره حبل المشنقة لكن القدر ابى ان يرحل والحبل ملتف حول عنقه، أفلت منه في الدقائق الأخيرة، حكم عليه بالإعدام مرتين غيابيا، وكان في كل مرة ينبعث من الرماد ليعود لنشاطه، داع صيته في ربوع الوطن انطلقت رحلته من مراكش وبعدها حط الرحال بالدار البيضاء، آمن بضرورة التحرر من قبضة المستعمر ورفض الاستقلال الشكلي، اعتبره محمد الخامس ابنا له، تلى خطابا باسم الشعب المغربي الى جانب الملك الراحل محمد الخامس في ذكرى ثورة الملك والشعب، كان مهندس حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959، إلا أنه وفي لحظة تربع الحسن الثاني على العرش انزاحت علاقته بالقصر عن مسارها فسارت في طريق آخر بعدما كان ابنا للراحل محمد الخامس، ليعتقل بعدها فيما سمي بمؤامرة يوليوز، ويواجه بتهمة محاولة اغتيال الملك الحسن الثاني وقلب النظام، غادر المغرب وعاد له بعد صفحة مصالحة وعاش بقية حياته الى ان حان أجله وهاته المرة شاء قدره ان تكون نهايته على يد مرض ألم به لا بحبل المشنقة، إنه الراحل الفقيه البصري.
في إحدى ليالي سنة 1925 بقرية أدوز نواحي دمنات سطع نجم محمد البصري الملقب بالفقيه البصري من أب من منطقة الأطلس وأم منحدرة من سوس، نشأ في أسرة محافظة وعالمة، تلقى تعاليم الدين وحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية وعلومها تلقى تعليمه الأولي في قريته وسط أهله وعشيرته، ليلتحق بعدها بمعهد ابن يوسف بمراكش سنة 1944 حيث التقى بالحاج المتوكل عمر الساحلي وعبد الله إبراهيم والمختار السوسي كما اطلع على مؤلفات المفكرين الإسلاميين في الجزائر و البلدان العربية، فضلا عن إنماء شعوره السياسي ووعيه التحرري، هذا الوعي سيعرفه في سن مبكر على يد المجاهد حمان الفطواكي إبان احتجاج ضد الباشا الكلاوي الذي عرف ببطشه وسلطته، هذا الى جانب رفضه ما سمي حينها بالظهير البربري، واجه محمد البصري الكلاوي حين منع هذا الأخير تعلم البنات تحت مبرر واهي وهو ان التعليم يقودهن نحو الدعارة، هذا الكلام سيثير حفيظة البصري ليثور في وجه الكلاوي متهما إياه بأنه الراعي الأول للدعارة في مراكش، ليصوب الكلاوي بندقيته في وجه البصري.
استمرت رحلة البصري على قطار الحياة وهاته المرة يضع رحاله بالدار البيضاء بحثا عن سبيل أفضل في الممانعة ليدرك ان السلاح هو الحل وإيمانا منه بأنه لا حل إلا المقاومة أسس جيش التحرير سنة 1953 الى جانب مجموعة من المناضلين لتنطلق العمليات الفدائية التي الحقت اضرارا كثيرة بقوات الاستعمار، ليتم اعتقاله ويحاكم بالإعدام، بعدها تمكن من الهرب من سجن القنيطرة المركزي بعد أن أصبحت تفصل بينه وبين مشنقة الاستعمار أميال قليلة، وعند استقلال المغرب اعتبر الراحل البصري هذا الإستقلال شكلي ولم ينضبط للقرارات التي اصبح جيش التحرير بموجبها ملزما بالتخلي عن حمل السلاح.
شارك الراحل البصري في مؤتمر مدريد لسنة 1956 الذي نظمته حركة المقاومة وجيش التحرير قصد تحديد موقفها من تطورات الأوضاع، حيث تبنى المؤتمر مواقف الفقيه البصري، والتي ترفض الاستقلال الشكلي وتطالب بتحرير سبتة ومليلية والجزر وإجلاء القواعد العسكرية وبعض المستوطنات، فضلا عن دعمه الثورة الجزائرية وسعيه الى وحدة المغرب العربي أنداك، سينشق بعدها الراحل البصري عن الحركة الوطنية سنة 1959 بعد ظهور تيار ثوري من داخل حزب الاستقلال ليستمر في نضاله الى جانب باقي اصدقائه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وفي سنة 1962 قاطع الفقيه البصري ورفاقه الدستور واصفين إياه بالممنوح، مما زاد من حدة التوتر بينه وبين النظام ليعتقل سنة 1963 فيما عرف بمؤامرة يوليوز رفقة عدد من القيادات الاتحادية بتهمة استهداف الملك ومحاولة قلب الناظم بالسلاح واستبداله بنظام جمهوري، ليصدر في حقه الاعدام الى جانب رفاقه إلا ان الحظ سيحالفه مرة أخرى بعد تنازل الملك الحسن الثاني عن إعدامه وإفلاته من قبضة المشنقة، وكأن القدر يأبى أن يسفك دمه بحبل المشنقة، إلا أن لعنة هاته الأخيرة ظلت تلاحقه وحكم عليه غيابيا مرتين على التوالي في شتنبر 1971 ويناير 1974.
قضى حينها الفقيه البصري سنوات طوال في المنفى متنقلا بين باريس وبيروت والقاهرة مما زاد اهتمامه بقضايا الشعوب العربية حيث اهتم بالقضية الفلسطينية وبعدها قضية العراق بعد العدوان عليها كما ظل ينادي بوحدة الشعوب العربية ونبد الاطروحات العرقية الداعية الى التعصب، عاد بعدها للمغرب سنة 1995 حيث دعى الى وحدة وطنية وجمع شتات كل القوى وتأسيس كتلة تاريخية تهدف الى جمع التيارات التي لها امتداد جماهيري شعبي والتفافها حول قضايا الوطن والدفاع عن قضية الصحراء وإرساء الديمقراطية والمواطنة الحقة، ليبدأ صفحة جديدة مع رفاقه الاتحاديين الذين كانوا على وعي بضرورة عودته واستكمال مسار الحزب وفتح صفحة جديدة والسير الى الأمام.
هذه كانت أبرز وأهم محطات الراحل البصري الذي شغل الدنيا ورسم له مسارا منفردا جمع بين ملكين وحمل معه أسرارا كبيرة، ليعيش الراحل بقية حياته بعد ان أحس أن قطاره الذي انطلق من أدوز مرورا بمراكش والبيضاء مسافرا عبر الدول العربية أشرف على الوصول الى محطته الأخيرة، بمدينة شفشاون، هذا وأفل نجم الفقيه محمد البصري في اكتوبر 2003 بمدينة شفشوان التي كانت اخر موطن له، بعد أن تسلل المرض لجسده لينخره شيء فشيء ويستسلم جسده للموت بعد نجى مرات عديدة من موت كان يراه أمام عينيه.